واشنطن تكتب سيناريوهات الغد: لبنان في اختبار السلام الممكن
خديجة رياض حكيم

خبيرة قانونية في الشأن الدولي والبترولي

Friday, 07-Nov-2025 07:36

في لحظةٍ تتبدّل فيها خرائط المنطقة، ويُعاد فيها تعريف الحروب والسلام، تصدر من واشنطن ورقة تحمل وقع الإعلان التاريخي. دراسة جديدة أعدّها «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى» في تشربن الاول الفائت تحت عنوان «خريطة طريق للسلام بين إسرائيل ولبنان»، لتقول ما كان يُعدّ من المحرّمات في الخطاب العربي: «إنّ لبنان قد يكون مقبلًا على سلام مع إسرائيل».

الدراسة ليست خيالًا سياسيًا، بل وثيقة أميركية تحمل تصورًا واضحًا لمرحلة ما بعد حرب 2024، وتقترح خريطة تفصيلية لمسار تطبيعي تدريجي، تبدأ بمشاريع اقتصادية وإنسانية وتصل إلى سلام رسمي كامل. «للمرّة الأولى منذ عقود، لم يعد السلام كلمة محرّمة في لبنان»، تقول الدراسة، التي ترى أنّ انهيار خطاب «المقاومة» بعد الحرب، وصعود لغة الواقعية السياسية والاقتصادية، شكّلا الأرض الخصبة لتحوّلٍ كان مستحيلًا قبل سنوات.

 

ففي نظر معدّي الورقة، تَبدّل المشهد في بيروت كما لم يحدث منذ «اتفاق الطائف». انهار رصيد «حزب الله» الشعبي بعد الخسارة الميدانية الثقيلة، وتحوّل الجنوب من رمزٍ للصمود إلى مرآةٍ للدمار. وفي المقابل، بدأت لغة أخرى تسري في البلد المنهك: لغة تسأل عن مستقبل الاقتصاد لا عن عدد الصواريخ، وعن الكهرباء لا عن الحدود. وترى الدراسة أنّ إدارة ترامب الثانية التقطت اللحظة. فواشنطن، التي أعادت إحياء مسار اتفاقات أبراهام، تعتبر لبنان الحلقة المفقودة في «سلام الشرق الأوسط».

 

وتسرد الوثيقة مشاهد مفصلية رسّخت الاقتناع بأنّ فكرة السلام باتت قابلة للنطق في لبنان. ففي الأمم المتحدة، رفع بنيامين نتنياهو صوته – كما يفعل دائمًا – لكنه هذه المرّة مدّ «غصن زيتون» في اتجاه بيروت، مشيدًا بتعهّدها نزع سلاح «حزب الله»، ومؤكّدًا أنّ «السلام بين البلدين ممكن». وفي وقتٍ سابق بثلاثة أيام، صعد الرئيس اللبناني جوزاف عون المنبر نفسه، وقال في الجملة الأولى من خطابه: «أقف أمامكم اليوم متحدثًا عن السلام». كأنّ الصدى بين الخطابين كان رسالة غير معلنة بأنّ الجدران العالية التي بنتها الحرب بدأت تتشقق. وسبق ذلك تصريحات للرئيس عون في الدوحة، أكّد فيها استعداد لبنان للسلام وفق مبادرة السلام العربية، وفي لقاء آخر دعا إلى مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل، معتبرًا أنّ «لبنان لا يمكن أن يبقى خارج مسار حلّ الأزمات في المنطقة». حتى رئيس الحكومة نواف سلام، الذي تنحدر جذوره السياسية من اليسار كما تشير الوثيقة، خرج عن صمته قائلًا إنّ: «التطبيع مع إسرائيل ممكن فقط بوجود دولة فلسطينية مستقلة».

 

لم تكن هذه العبارات، في نظر واشنطن، مجرد مواقف ديبلوماسية عابرة، بل إشارة إلى أنّ مفهوم «المحرَّم السياسي» بدأ يتهاوى في بلدٍ تعوّد أن يعيش على فوهة التاريخ.

 

ولا تقف خطة معهد واشنطن على مجرد الرغبة، بل تفصّل مراحل التنفيذ خطوة بخطوة. فالركيزة الأولى للخطة هي نزع سلاح «حزب الله» في اعتباره الشرط المسبق لأي تسوية. فالجيش اللبناني – بحسب الدراسة – بدأ تنفيذ خطة تفكيك المراكز العسكرية جنوب الليطاني، لكنه لم يقترب بعد من المرحلة الثانية شمال النهر، المقرّرة مطلع سنة 2026. وتحذّر الدراسة بوضوح من أنّه «إذا فشلت بيروت في تنفيذ التزاماتها، فإنّ إسرائيل قد تتولّى المهمّة بنفسها». وإلى جانب «حزب الله»، تذكر الدراسة أنّ اثنتي عشرة مخيمًا فلسطينيًا لا تزال تحوي سلاحًا خارج سلطة الدولة، في طليعتها مخيم عين الحلوة، وأنّ نزع هذا السلاح يشكّل اختبارًا لقدرة الحكومة على فرض سيادتها.

 

أما الركيزة الثانية فهي الاقتصاد كجسرٍ إلى السياسة. فواشنطن – كما تقترح الدراسة – ستتبنّى «سياسة العصا والجزرة»: عقوبات على من يعرقل الانفتاح، ومساعدات سخية لمن يسير في طريقه. وتشير الدراسة في هذا الإطار إلى عدد من الخطوات لبناء الثقة الميدانية التي يمكن أن تشكّل ركائز أولى لسلام واقعي خاص بلبنان، أبرزها:

 

- استكمال ترسيم الحدود البرية، إذ إنّ معظم النقاط المتنازع عليها قابلة للحل، ولا سيما منها النقطة B1 عند رأس الناقورة (لبنان) أو ما يسمّى روش هنيكرا (إسرائيل)، حيث قدّمت الولايات المتحدة صيغة تسوية وسطية مقترحة للطرفين.

- فتح معبر رأس الناقورة أمام حركة السياحة الأجنبية تحت إشراف الأمم المتحدة، بما يساهم في إنعاش النشاط الاقتصادي في جنوب لبنان والجليل الغربي.

 

- إقرار لبنان بأنّ مزارع شبعا وقرية الغجر العلوية كانتا في الأصل تابعتين لسوريا عند احتلالهما عام 1967.

- تزويد إسرائيل لبنان الغاز الطبيعي عبر خط الغاز العربي، من خلال تمديد يمرّ بالأراضي السورية، في خطوة من شأنها التخفيف من أزمة الطاقة الحادة في لبنان.

 

- إدارة مشتركة لمياه نهر الحاصباني وروافده، والتنسيق في معالجة مياه الصرف الصحي ضمن الحوض المشترك لتجنّب التلوث البيئي.

- تنظيم زيارات دينية متبادلة وخاضعة للرقابة إلى المواقع المقدسة في البلدين، بحيث يتمكّن المسيحيون والدروز الإسرائيليون من زيارة ضريح القديس شربل في عنايا وخلوات البياضة قرب حاصبيا، مقابل السماح للبنانيين بزيارة القدس والناصرة وبيت لحم (وفق الظروف السياسية والأمنية) وضريح النبي شعيب قرب طبريا.

 

وتتوقف الدراسة طويلًا عند العقبة المزدوجة، السياسية والتشريعية، التي قد تعوق أي انفتاح لبناني نحو فكرة السلام مع إسرائيل. فعلى الصعيد السياسي، ترى الدراسة أنّ رئيس مجلس النواب نبيه بري يشكّل العقبة الأبرز نظرًا إلى تحالفه الطويل مع «حزب الله» وقدرته على تعطيل أي مسار ديبلوماسي محتمل حتى موعد الانتخابات النيابية المقرّرة في أيار 2026. أما على الصعيد التشريعي، فتبرز ما تسمّيه الدراسة «العائق التشريعي اللبناني» المتمثل في قانون مقاطعة إسرائيل، الذي يجرّم أي شكل من أشكال الاتصال المباشر أو غير المباشر مع الإسرائيليين، بما في ذلك التواصل الإلكتروني عبر الإنترنت. وتصف الدراسة هذا القانون بأنّه «قانون يعزل لبنان عن العالم، ويمنع أي حوار مدني يمكن أن يؤسس لسلامٍ مستقبلي. «ورغم أنّ البرلمان الخاضع حاليًا لسيطرة رئيسه»، بحسب الدراسة، ليس من المرجّح أن يوافق على إلغاء القانون أو تعديله، تشير الدراسة إلى أنّ الحكومة اللبنانية تمتلك صلاحية «تخفيف تطبيقه دون إلغائه»، مما قد يشكّل خطوة رمزية مهمّة تتيح للنقاش العام أن يتنفس، وتمكّن الناشطين المدنيين من العمل بحرّية أكبر، كما تمنح الحكومة فرصة لإظهار نية سياسية جديدة منفتحة على الحوار والتفاهم.!!

 

في خاتمة الدراسة، يلوح التحذير واضحًا كحدّ السيف:

 

«لبنان أمام خيارين لا ثالث لهما - إما أن يدخل مسار السلام، حتى ولو بخطوات تدريجية، أو أن يسقط في العزلة والانهيار». فواشنطن، التي تتهيأ لإعادة ترتيب الشرق الأوسط في ظل تسويات غزة وسوريا، لن تقبل -كما تورد الدراسة- «بدولة رمادية تبقى تحت تأثير الوكيل الإيراني». فإذا فشل لبنان في نزع سلاح «حزب الله»، ولم يبدأ عملية ديبلوماسية مع إسرائيل، فسيخسر الدعم الأميركي والدولي، وسيخسر جيشه المساعدات الأميركية، وقد تُترك إسرائيل لتكمل بنفسها وبالقوة عملية «نزع السلاح». أما إذا التقط اللبنانيون هذه اللحظة، فسيجدون أنفسهم في قلب خريطة جديدة، لا تَعدهم فقط بالأمن، بل بالإنقاذ الاقتصادي والانفتاح الإقليمي!!

 

غير أنّنا نرى أنَّ الخطر لا يكمن في الخطوط المرسومة على الورق، بل في الأيدي التي تمسك القلم وترسمها. فواشنطن ترسم بخبرة من اعتاد هندسة الشرق وإعادة تشكيله، فيما نحن -كما تشهد صفحات التاريخ- ما زلنا نقرأ ما يُكتب لنا متأخّرين. أولئك الذين يخططون لنا لا يخفون نياتهم، بل يعلنونها صراحة، بينما نحن نغرق في جدل النيات، ونكتفي بقراءة العناوين من دون أن نجرؤ على فتح الصفحات.

 

فالمسألة اليوم لم تعد في صدق الخريطة المرسومة، بل في شرعية اليد التي تمتد لترسمها. فهل يمكن للجلّاد أن يتقمّص دور المنقذ وهو ما زال يشحذ سيفه خلف قناع الديبلوماسية؟ وهل نُصدّق أنّ اليد التي رفعت أنقاضنا قادرة على حمل غصن الزيتون من دون أن تُدميه؟ إنّ الاشهر المقبلة وحدها كفيلة بكشف ما يُحاك في الخفاء.

الأكثر قراءة